فصل: سورة الكافرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَالفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ‏}‏‏.‏

الفجرُ انفجارُ الصُّبح وهو اثنان‏:‏ مستطيلٌ وقصير؛ ففي التفسير‏:‏ إنه فَجْرُ المحرَّم لأنه ابتداء السنة كلها، وقيل‏:‏ فجر ذي الحجة‏.‏

ويقال‏:‏ هو الصخور ينفجر منها الماء‏.‏

ويقال‏:‏ أقسم به لأنَّه وقتُ عبادة الأولياء عند افتتاحهم النهار‏.‏

‏{‏وَلَيَالٍ عَشْرٍ‏}‏ قيل‏:‏ هي عَشْرُ ذي الحجة، ويقال‏:‏ عَشْرُ المحرم؛ لأن آخرها عاشوراء‏.‏ ويقال‏:‏ العَشْرُ الأخيرة من رمضان‏.‏

ويقال‏:‏ هي العَشْرُ التي ذكرها اللَّهُ في قصة موسى عليه السلام تمَّ به ميعاده بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ هو «فجرُ» قلوبِ العارفين إذا ارتقوا عن حدِّ العلم، وأسفر صُبْحُ معارفِهم، فاستغنوا عن ظلمة طلب البرهان بما تجلَّى في قلوبهم من البيان‏.‏

‏{‏وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‏}‏‏.‏

جاء في التفاسير‏:‏ الشفعُ يومُ النَّحْرِ، والوتر يوم عَرَفَة‏.‏

ويقال‏:‏ آدم كان وتراً فشُفِعَ بزوجته حواء‏.‏

وفي خبرٍ‏:‏ إنها الصلوات منها وتر ‏(‏كصلاة المغرب‏)‏ ومنها شفع كصلاة الصُّبْح‏.‏

ويقال‏:‏ الشفع الزوج من العَدَد، والوتر الفَرْدُ من العدد‏.‏

ويقال‏:‏ الشفع تضادُّ أوصاف الخَلْق‏:‏ كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت‏.‏ والوتر انفرادُ صفاتِ الله سبحانه عمَّا يضادُّها؛ علم بلا جهلٍ، وقدرة بلا عجزٍ، وحياة بلا موتٍ‏.‏

ويقال‏:‏ الشفعُ الإرداة والنية، والوتر الهِمَّة؛ لا تكتفي بالمخلوق ولا سبيل لها إلى الله- لتَقَدُّسِه عن الوَصْلِ والفَصْل‏.‏‏.‏ فبقيت الهِمَّةُ غريبةً‏.‏

ويقال‏:‏ الشفع الزاهد والعابد، لأن لكل منهما شكلاً وقريناً، والوترُ المريدُ فهو كما قيل‏:‏

فريدٌ من الخِلاَّنِ في كل بلدةٍ *** إذا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ المساعدُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‏}‏‏.‏

«يسري» يمضي‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حَجْرٍ‏}‏‏.‏

«حِجْرٍ»‏.‏ لُبٍّ‏.‏ وجوابُ القَسَمِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ‏}‏‏.‏

ذكر قصص هؤلاء المتقدمين *** إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ شدة العذاب‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرِصَادِ‏}‏‏.‏

لا يفوته شيءٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ‏}‏‏.‏

‏{‏فيقول ربي أكرمني‏}‏‏:‏ أي‏:‏ شَكَرَه‏.‏

‏{‏فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ ضيَّق، ‏{‏فيقول ربي أَهانني‏}‏‏.‏ أي‏:‏ أذلَّني‏.‏ كلا‏.‏‏.‏ ليس الإذلالُ بالفقر إنما بالخذلانِ للعصيان‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أنتم تستحقون الإهانة على هذه الخصال المذمومة؛ فلا تُكْرِمون اليتيمَ‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا‏}‏‏.‏

لمَّا‏.‏ أي شديداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 30‏]‏

‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَتُّحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً‏}‏‏.‏

جَمًّا أي كثيراً‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ قامت القيامة‏.‏

‏{‏وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَآءَ رَبُّكَ‏}‏ أي الملائكه بأمره‏.‏

ويقال‏:‏ يفعل فعلاً فيُسميه مجيئاً‏.‏

‏{‏وَجِأْئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ تُقَاد جهنم بسبعين ألف زمام‏.‏

وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسانُ *** ولا يَنْفَعه التذكَّر، ولا يُقْبَلُ منه العُذْرُ‏.‏

‏{‏يَقُولُ يَالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أطَعْتُ ربِّي ونظرت لنفسي‏.‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يعذَّب في الدنيا أحدٌ مثلما يعذَّبه الله في ذلك اليوم‏.‏‏.‏ إذا قرئت الذال بالكسر‏.‏

أما إذا قرئت بالفتح ‏{‏لا يعذب‏}‏ فالمعنى‏:‏ لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلما يُعَذَّبُ هذا الكافر‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ياأيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ‏}‏‏.‏

الروحُ المطمئنةُ إلى النفس‏.‏

ويقال‏:‏ المطمئنةُ بالمعرفة‏:‏ ويقال‏:‏ المطمئنة بذكر الله‏.‏

ويقال‏:‏ بالبشارة بالجنة‏.‏ ويقال‏:‏ النفس المطمئنة‏:‏ الروح الساكنة‏.‏

‏{‏ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَةً‏}‏‏.‏

راضيةً عن الله، مَرْضيةً من قِبَل الله‏.‏

‏{‏فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ في عبادي الصالحين‏.‏

سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏لآَ أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أُقْسِم بهذا البلد، وهو مكة‏.‏

‏{‏وَأَنتَ حِلُّ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏‏.‏

وإنما أُحِلَّتْ له ساعةً واحدةً‏.‏

‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ‏}‏‏.‏

كلِّ والدٍ وكلِّ مولود‏.‏ وقيل‏:‏ آدم وأولاده‏.‏

وجواب القسم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ أُقسم بهذا البلد لأنك حِلٌّ به‏.‏‏.‏ وبَلَدُ الحبيبِ حبيبٌ‏.‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ في مشقة؛ فهو يقاسي شدائد الدنيا والآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ خَلَقه في بطن أمه ‏(‏منتصباً رأسُه‏)‏ فإذا أذِنَ الله أن يخرج من بطن أمِّه تنكَّس رأسُه عند خروجه، ثم في القِماط وشدِّ الربِّاط‏.‏‏.‏ ثم إلى الصِّراط هو في الهِياط والمِياط‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لقَّوته وشجاعته عند نَفْسِه يقول‏:‏

‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً‏}‏‏.‏

‏{‏لبداً‏}‏ كثيراً، في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

أليس يعلم أنَّ الله يراه، وأَنه مُطَّلِعٌ عليه‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 20‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ألم نخلقه سميعاً بصيراً متكلِّماً‏.‏

‏{‏وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏‏.‏

الهمناه طريق الخيرِ والشِّر‏.‏

‏{‏فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْبَغَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ فهلاَّ اقتحم العقبة ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ‏}‏ استفهام على التفخيم لشأنها‏.‏

ويقال‏:‏ هي عَقَبَةٌ بين الجنة والنار يجاوزها مَنْ فَعَلَ ما قاله‏:‏ وهو فكُّ رقبة؛ أي‏:‏ إعتاقُ مملوك، والفكُّ الإزالة‏.‏ وأطعم في يومٍ ذي مجاعةٍ وقحطٍ وشدَّةٍ يتيماً ذا قربة، أو ‏{‏أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏‏:‏ لا شيء له حتى كأنه قد التصق بالتراب من الجوع‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وتواصوا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَواْ بِالْمرْحَمَةِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ من الذين يرحم بعضُهم بعضاً‏.‏

‏{‏أُوْلئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أصحاب اليُمْنِ والبركة‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ عَلَيْهِم نَارٌ مُّؤْصَدَةُ‏}‏‏.‏

هم المشائيمُ على أنفسهم، عليهم نارٌ مُطْبِقَة؛ يعني أبواب النيران ‏(‏عليهم مغلقة‏)‏‏.‏

والعقبة التي يجب على الإنسان اقتحامها‏:‏ نَفْسُه وهواه، وما لم يَجُزْ تلك العقبة لا يفلح و‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ هو إعتاقُ نَفْسِه من رِقِّ الأغراض والأشخاص‏.‏

ويكون فك الرقبة بأن يهدي مَنْ يفكُّه- من رق هواه ونفسه- إلى سلامته من شُحِّ نفسه، ويرجعه إليه، ويخرجه من ذُلِّه‏.‏

ويكون فكُّ الرقبة بالتَّحرُّزِ من التدبير، والخروج من ظلمات الاختيار إلى سعة الرضاء‏.‏

ويقال‏:‏ يطعم من كان في متربة ويكون هو في مسبغة‏.‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ أي تكون خاتمته على ذلك‏.‏

سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏والشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏‏.‏

ضَحَا الشمسِ صَدْرُ وقت طلوعها‏.‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تَبِعَها؛ وذلك في النصف الأول من الشهر‏.‏

‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا‏}‏‏.‏

إذا جلَّى الشمسَ وكَشَفَها‏.‏

‏{‏وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يَغْشَى الشمس ‏(‏فيذهب بضوئها‏)‏‏.‏

‏{‏وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ وبنائها‏.‏ ويقال‏:‏ ومَنْ بناها‏.‏

‏{‏وَالاَّرْضِ وَمَا طَحَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ وطَحْوها‏.‏ ويقال‏:‏ ومَنْ طحاها ‏(‏أي بسطها أو قسمها أو خلقها‏)‏‏.‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوًَّاهَا‏}‏‏.‏

ومن سوَّى أجزاءها وأعضاءها‏.‏

‏{‏فَأَلْهَمَا فُجْورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ بأن خَذَلَها ووَفَّقَها‏.‏

ويقال‏:‏ فجورها‏:‏ حركتها في طلب الرزق، وتقواها‏:‏ سكونها بِحُكْمِ القدير‏.‏

وقيل‏:‏ طريق الخير والشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏‏.‏

هذا جواب القَسَم‏.‏ أي «لقد أفلح من زكاها»‏.‏

ويقال‏:‏ مَنْ زكَّاه اللَّهُ عزَّ وجلَّ‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَابَ مَن دساها‏}‏‏.‏

أي‏:‏ دسَّها الله‏.‏ وقيل‏:‏ دسَّها في جملة الصالحين وليس منهم‏.‏

وقيل‏:‏ خاب مَنْ دسَّ نَفْسَه بمعصية الله‏.‏ وقيل دسَّاها‏:‏ جعل خسيسةً حقيرةً‏.‏ وأصل الكلمة دسسها‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ‏}‏‏.‏

‏{‏بِطَغْوَاهَآ‏}‏‏:‏ لطغيانها، وقيل‏:‏ إن صالحاً قد مات، فكَفَر قومُه، فأحياه اللَّهُ، فدعاهم إلى الإيمان، فكذَّبوه، وسألوه علامةً وهي الناقة، فأتاهم صالح بما سألوا‏.‏

‏{‏إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏‏.‏

«أشقاها» عاقِرُها‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ احذروا ناقةَ اللَّهِ، واحذروا سقياها‏:‏ أي لا تتعرَّضوا لها‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا‏}‏‏.‏

أي كذَّبوا صالحاً، فعقروا الناقة‏.‏

‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنِبهِم فَسَوَّاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أهلكهم بجُرْمِهم «فسوَّاها»‏:‏ أي أَطبق عليهم العذاب‏.‏

ويقال‏:‏ سَوَّى بينهم ربُّهم في العذاب لأنهم كلهم رضوا بعقر الناقة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أن الله لا يخاف عاقبة ما فَعَلَ بهم من العقوبة‏.‏

ويقال‏:‏ قد أفلح مَنْ دَاوَمَ على العبادة، وخابَ مَنْ قصَّرَ فيها‏.‏

وفائدة السورة‏:‏ أنه أفلح مَنْ طَهَّرَ نَفْسَه عن الذنوب والعيوبِ، ثم عن الأطماع في الأعواض والأغراض، ثم أبْعَدَ نَفْسَه عن الاعتراض على الأقسام، وعن ارتكاب الحرام‏.‏ وقد خابَ من خانَ نَفْسَه، وأهملها عن المراعاة، ودَنَّسَهَا بالمخالفات، فلم يرضَ بعَدَم المعاني حتى ضمَّ إلى فَقْرِها منها الدعاوى المظلمة‏.‏‏.‏ فغرقت في بحرِ الشقاء سفينَتُه‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏والَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏‏.‏

يغشى الأفقَ، وما بين السماء والأرض فيستره بظُلْمتِه‏.‏

والليلِ لأصحاب التحيُّر يستغرِق جميعَ أقطار أفكارهم فلا يهتدون الرشد‏.‏

‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏‏.‏

أنارَ وَظَهرَ، ووَضح وأسفر‏.‏

ونهارٌ أهلِ العرفان بضياء قلوبهم وأسرارهم، حتى لا يَخْفَى عليهم شيءٌ، فسكنوا بطلوعِ الشمس عن تكلُّف إيقاد السراجِ‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ «من» خَلَقَ الذكر والأنثى؛ وهو الله سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏‏.‏

هذا جوالُ القَسَم، والمعنى‏:‏ إنَّ عملكم لمختلف؛ فمنكم‏:‏ مَنْ سَعْيُه في طلب دنياه، ومنكم مَنْ سعيهُ في شهواتِ نَفْسِه واتباع هواه، ومنكم مَنْ سعيهُ في شهواتِ، ومنكم مَنْ في طَلَبِ جاهِه ومُناه، وآخر في طلب عقباه، وآخر في تصحيح تقواه، وآخر في تصفية ذكراه، وآخر في القيام بحُسْنِ رضاه، وآخر في طلب مولاه‏.‏

ومنكم‏:‏ من يجمع بين سعي النّفْس بالطاعة، وسَعْي القلب بالإخلاص، وسعي البَدَن بالقُرَب، وسعي اللسان بذكر الله، والقول الحَسَنِ للناس، ودعاء الخَلْقِ إلى الله والنصيحة لهم‏.‏

ومنهم مَنْ سعيُه في هلاكِ نَفْسِه وما فيه هلاك دنياه‏.‏‏.‏ ومنهم‏.‏‏.‏ ومنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 18‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى‏}‏ من مالِه، ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ مخالفةَ ربِّه‏.‏‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أعطى‏}‏ الإنصافَ من نَفْسِه، ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ طَلَبَ الإنصافِ لنفسِه‏.‏‏.‏‏.‏

ويقال‏:‏ «اتقى» مساخِطَ الله‏.‏ ‏{‏وَصَدَّقَ بالْحُسْنَى‏}‏‏:‏ بالجنة، أو بالكَرَّةِ الآخرة، وبالمغفرةِ لأهل الكبائر، وبالشفاعة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالخَلَفِ من قِبَل الله *** فسَنُيَسِّرهُ لليُسْرَى‏:‏ أي نُسَهِّلُ عليه الطاعاتِ، ونُكَرِّهُ إليه المخالفاتِ، ونُشَهِّي إليه القُرَبَ، ونُحبِّبُ إليه الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان‏.‏

ويقال‏:‏ الإقامة على طاعته والعود إلى ما عمله من عبادته‏.‏

‏{‏وََأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏‏.‏

أما من مَنَعَ الواجبَ، واستغنى في اعتقاده، وكَذَّب بالحسنى‏:‏ أي بما ذَكَرْنا، فسينسره للعسرى؛ فيقع في المعصية ولم يُدَبِّرْها، ونوقف له أسبابَ المخالفة‏.‏

ويقال‏:‏ «أعطى» أعْرَضَ عن الدارين، «واتَّقى» أن يجعل لهما في نفسه مقداراً‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ إذا مات‏.‏‏.‏ فما الذين يغني عنه ماله بعد موته‏؟‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏‏.‏

لأوليائنا، الذين أرشدناهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ بنصيب الدلائل‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لَنَا للأَخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏‏.‏

مُلْكاً، نعطيه من نشاء‏.‏

‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تتلظَّى‏.‏

‏{‏لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يُعَذَّبُ بها إلاَّ الأشقى، وهو‏:‏

‏{‏الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ كَفَرَ‏.‏

‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏‏.‏

يُعْطى الزكاة المفروضة‏.‏

ويقال يَتَطهَّر من الذنوب‏.‏

ونزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه، والآية عامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى‏}‏‏.‏

حتى تكون هذه مكافأة له‏.‏ ولا يفعل هذا لَيَتَّخِذَ عند أحدٍ يَداً، ولا يطلب منه مكافأةٍ‏:‏

‏{‏إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ ربِّه الأَعْلَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ليتقرَّبَ بها إلى الله‏.‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏‏.‏

يَرْضَى اللَّهُ عنه، ويرضى هو بما يعطيه‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏‏.‏

«والضحى»‏:‏ ساعةٌ من النهار‏.‏ أو النهارُ كلُّ يُسَمّى ضُحًى‏.‏ ويقال‏:‏ أقسم بصلاة الضُّحى‏.‏

ويقال‏:‏ الضحى الساعةٌ التي كَلَّم فيها موسى عليه السلام‏.‏

‏{‏وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ أي‏:‏ ليلة المعراج، و«سجا»‏:‏ أي سَكَن، ويقال‏:‏ هو عامٌّ في جِنْسِ الليل‏.‏

ويقال‏:‏ «الضحى» وقت الشهود‏.‏ ‏{‏وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ الذي قال‏:‏ إنه ليُغَانّ على قلبي‏.‏‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الليل إذا سجا‏}‏ حين ينزل اللَّهُ فيه إلى السماء الدنيا- على التأويل الذي يصحُّ في وصفه‏.‏

‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏‏.‏

ما قَطَعَ عنك الوحيَ وما أبغضك‏.‏

وكان ذلك حين تأخَّر جبريلُ- عليه السلام- عنه أياماً، فقال أهل مكة‏:‏ إن محمداً قد قلاه ربُّه‏.‏ ثم أنزل هذه السورة‏.‏

وقيل‏:‏ احتبس عنه جبريل أربعين يوماً، وقيل‏:‏ اثني عشر يوماً، وقيل‏:‏ خمسة وعشرين يوماً‏.‏

ويقال‏:‏ سبب احتباسه أن يهودياً سأله عن قصة ذي القرنين وأصحاب الكهف، فوَعَدَ الجوابَ ولم يقل‏:‏ إن شاء الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ما يعطيك في الآخرة خيرٌ لَكَ مما يعطيك في الدنيا‏.‏

ويقال‏:‏ ما أعطاك من الشفاعة والحوض، وما يُلْبِسُك من لباس التوحيدِ- غداً- خيرٌ مما أعطاكَ اليومَ‏.‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ أفترضى بالعطاء عن المُعْطِي‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ إلى عمِّه أبي طالب‏.‏

ويقال‏:‏ بل آواه إلى كَنَفِ ظِلِّه، وربَّاه بلطف رعايته‏.‏

ويقال‏:‏ فآواكَ إلى بِساطِ القربة بحيث انفردْتَ بمقامِك، فلم يُشَارككْ فيه أحدٌ‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ضللْتَ في شِعابِ مكة، فَهَدَى إليك عَمَّك أبا طالبٍ في حال صباك‏.‏

ويقال‏:‏ «ضالاً» فينا متحيِّراً‏.‏‏.‏ فهديناك بنا إلينا‏.‏

ويقال‏:‏ «ضالاً» عن تفصيل الشرائع؛ فهديناك إليها بأن عرَّفناك تفصيلها‏.‏

ويقال‏:‏ فيما بين الأقوام ضلالٌ فهداهم بك‏.‏

وقيل‏:‏ «ضالاً» للاستنشاء فهداك لذلك‏.‏

وقيل‏:‏ «ضالاً» في محبتنا، فهديناك بنور القربة إلينا‏.‏

ويقال‏:‏ «ضالاً» عن محبتي لك فعرَّفتك أنِّي أُحِبُّك‏.‏

ويقال‏:‏ جاهلاً بمحلِّ شرفِكَ، فعرَّفْتُك قَدْرَكَ‏.‏

ويقال‏:‏ مستتراً في أهل مكة لا يعرفك أحدٌ فهديناهم إليك حتى عرفوك‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى‏}‏‏.‏

في التفسر‏:‏ فأغناكَ بمال خديجة‏.‏

ويقال‏:‏ أغناك عن الإرداة والطلب بأن أرضاك بالفَقْد‏.‏

ويقال‏:‏ أغناك بالنبوَّة والكتاب‏.‏ ويقال‏:‏ أغناك بالله‏.‏

ويقال‏:‏ أغناك عن السؤال حينما أعطاك ابتداءً؛ بلا سؤالٍ منك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَر‏}‏‏.‏

فلا تُخِفْه، وارفقْ به، وقرِّبْه‏.‏

‏{‏وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إمَّا أن تُعْطِيَه‏.‏‏.‏ أو تَرُدَّه برِفْقٍ، أو وعدٍ‏.‏

ويقال‏:‏ السائلُ عنَّا، والسائلُ المتحيِّرُ فينا- لا تنهرهم، فإنَّا نهديهم، ونكشف مواضع سؤالهم عليهم‏.‏‏.‏ فلا طِفْهم أنت في القول‏.‏

‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏‏.‏

فاشكُرْ، وصَرِّحْ بإحسانه إليك، وإنعامه عليك‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏‏.‏

ألَمْ نُوَسِّعْ قَلْبَكَ للإِسلام‏؟‏ ألم نُليِّنه للإِيمان‏؟‏

ويقال ألم نوسع صدرك بنور الرسالة‏؟‏ ألم نوسِّع صدرك لقَبُولِ ما نورِدُ عليك‏.‏

‏{‏وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إثمْكَ قبل النبوَّة‏.‏

ويقال‏:‏ عصمناكَ عن ارتكابِ الوِزْرِ؛ فَوضْعُه عنه بأنَّه لم يستوجبْه قطّ‏.‏

ويقال‏:‏ خفضنا عنك أعباءَ النبوَّة وجعلناكَ محمولاً لا متحمِّلاً‏.‏

ويقال‏:‏ قويناك على التحمُّل من الخَلْق، وقوَّيناك لمشاهدتنا، وحفظنا عليك ما استحفظت، وحرسناكَ عن ملاحظة الخَلْقَ فيما شرَّفناك به‏.‏

‏{‏الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏‏:‏ أثقله، ولولا حَمْلُنا عنك لَكُسِرَ‏.‏

‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏

بِذِكْرنا؛ فكما لا تَصِحُّ كلمةُ الشهادة إلا بي، فإنها لا تَصِحُّ إلا بك‏.‏

ويقال‏:‏ رفعنا لك ذكرك بقول الناس‏:‏ محمد رسول الله‏!‏

ويقال‏:‏ أثبتنا لك شرف الرسالة‏.‏

‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً‏}‏‏.‏

وفي الخبر‏:‏ «لن يغلب عُسْرٌ يُسْريْن» ومعناه‏:‏ أن العسر بالألف واللام في الموضعين للعهد- فهو واحد، واليُسْر مُنكَّرٌ في الموضعين فهما شيئان‏.‏ والعُسْر الواحد‏:‏ ما كان في الدنيا، واليسران‏:‏ أحدهما في الدنيا في الخصب، وزوال البلاء، والثاني في الآخرة من الجزاء وإذاً فعُسْرُ جميع المؤمنين واحد- هو ما نابهم من شدائد الدنيا، ويُسْرُهم اثنان‏:‏ اليومَ بالكَشْفِ والصَّرْفِ، وغداً بالجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ‏}‏‏.‏

فإذا فَرَغْتَ من الصلاة المفروضة عليك فانْصَبْ في الدعاء‏.‏

ويقال‏:‏ فإذا فرغت من العبادة فانصب في الشفاعة‏.‏

ويقال‏:‏ فإذا فرغت من عبادة نَفْسِك فانْصَبْ بقلبك‏.‏

‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب‏}‏‏.‏

في جميع الأحوال‏.‏

ويقال‏:‏ فإذا فرغت من تبليغ الرسالة فارغب في الشفاعة‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏‏.‏

أقسم بالتين لما به من عظيم المِنَّةِ على الخَلْقِ حيث لم يجعل فيه النَّوى، وخَلَّصَه من شائب التنغيص، وجعله على مقدار اللُّقْمة لتكمل به اللذََّة‏.‏ وجعل في «الزيتون» من المنافع مثل الاستصباح والتأدُّم والاصطباغ به‏.‏

‏{‏وَطُورِ سِينينَ‏}‏‏.‏

الجبل الذي كَلَّمَ الله موسى عليه‏.‏ ولموضعِ قَدَمِ الأحباب حُرْمةٌ‏.‏

‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ مكة، ولهذا البلد شرف كبير، فهي بلدُ الحبيب، وفيها البيت؛ ولبيتِ الحبيبِ وبَلَدِ الحبيبِ قَدْرٌ ومنزلة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمِ‏}‏‏.‏

في اعتدال قامتِه، وحُسْنِ تركيب أعضائه‏.‏ هذا يدل على أنَّ الحقَّ- سبحانه- ليس له صورة ولا هيئة؛ لأن كلَّ صفةٍ اشتراك فيها الخَلْقُ والحقُّ فالمبالغةُ للحقِّ‏.‏‏.‏ كالعلم، فالأعلمُ اللَّهُ، والقدرة‏:‏ فالأقدَرُ اللَّهُ فلو اشترك الخَلْقُ والخالقُ في التركيب والصورة لكانَ الأحسن في الصورة اللَّهُ *** فلمَّا قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏‏.‏ عُلِمَ أَنَّ الحقَّ- سبحانه- مُنَزَّةٌ عن التقويم وعن الصورة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إلى أراذل العمر وهو حال الخَرَفِ والهَرَم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏‏:‏ إلى النار والهاوية في أقبح صورة؛ فيكون أوَّلُ الآيةِ عامّاً وآخرها خاصًّا بالكفَّار‏.‏‏.‏ كما أنَّ التأويلَ الأولَ- الذي هو حال الهَرَم- خاصُّ في البعض؛ إذ ليس كلُّ الناسِ يبلغون حالَ الهَرَم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ غير منقوص‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ إلى حال الشقاوة والكفر إلاَّ المؤمنين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُِكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏‏.‏

أيها الأنسانُ‏.‏‏.‏ مع كل هذا البرهان والبيان‏؟‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ‏}‏‏.‏

هذه السورة من أَوّلِ ما نَزَل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا تعرِّض له جبريل في الهواء، ونَزَلَ عليه فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ‏}‏‏.‏ فالناسُ كُلُّهم مريدون- وهو صلى الله عليه وسلم كان مُرَاداً‏.‏ فاستقبل الأمر بقوله‏:‏ «ما أنا بقارئ، فقال له‏:‏ اقرأ، فقال‏:‏ ما أنا بقارئ، فقال له‏:‏» اقرأ كما أقول لك؛ ‏{‏اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ‏}‏ «أي خلقهم على ما هم به‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏‏.‏

العَلَق جمع عَلَقَة؛ كشجَرٍ وشجرة‏.‏‏.‏ ‏(‏والعَلَقَةُ الدمُ الجامد فإذا جرى فهو المسفوح‏)‏‏.‏

‏{‏اقْرَاْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ‏}‏‏.‏

» الأكرم «‏:‏ أي الكريم‏.‏

ويقال‏:‏ الأكرم من كلِّ كريم‏.‏

‏{‏الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏.‏

عَلَّمهم ما لم يعلموا‏:‏ الضروريَّ، والكسبيَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 19‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏كَلآَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يتجاوز جَدَّه إِذا رأى في نفسه أنه استغنى؛ لأنه يَعْمَى عن مواضع افتقاره‏.‏ ولم يقل‏:‏ إِن استغنى بل قال‏:‏ ‏{‏أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى‏}‏ فإذا لم يكن مُعْجَباً بنفسه، وكان مشاهداً لمحلِّ افتقاره- لم يكن طاغياً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ الرجوع يوم القيامة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عِبْداً إِذَا صَلَّى‏}‏‏.‏

أليس لو لم يفعل هذا كان خيراً له‏؟‏ ففي الآية هذا الإضمار‏.‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى‏}‏‏.‏

لكان خيراً له‏؟‏

‏{‏أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَى‏}‏‏.‏ كذَّب بالدِّين‏.‏ وتولَّى عن الهداية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ما الذي يستحقُّه مَنْ هذه صفته‏؟‏

والتخويفُ برؤية الله تنبيه على المراقبة- ومَنْ لم يَبْلُغْ حالَ المراقبة لم يَرْتَق منه إلى حال المشاهدة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏‏.‏

لَنأخُذَنَّ بناصيته ‏(‏وهي شَعْرُ مُقَدَّم الرأس‏)‏ أخْذَ إِذلالٍ‏.‏ ومعناه لنًسَوِّدَنَّ وَجهْهَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ بدلٌ من قوله‏:‏ ‏{‏لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏‏.‏

‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏‏.‏

فليدعُ أهلَ نادَيه وأهل مجلسه، وسندعو الزبانيةَ ونأمرهم بإهلاكه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب‏}‏‏.‏

أي‏:‏ اقتربْ من شهود الربوبية بقلبك، وقِفْ على بِساط العبودية بنَفْسك‏.‏ ويقال‏:‏ فاسجُدْ بنفسِك، واقترِبْ بسِرِّك‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدْرِ‏}‏‏.‏

في ليلةٍ قَدَّرَ فيها الرحمةَ لأوليائه، في ليلةٍ يجد فيها العابدون قَدْرَ نفوسِهم، ويشهد فيهَا العارفون قَدْرَ معبودهم‏.‏‏.‏ وشتان بين وجودِ قَدْرٍ وشهودِ قَدْرٍ‏!‏ فلهؤلاء وجودُ قَدْرٍ ولكن قدر أنفسهم، ولهؤلاء شهود قدرٍ ولكن قدر معبودهم‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏‏.‏

استفهامٌ على جهة التفخيم لشأن تلك الليلة‏.‏

‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ هي خيرٌ من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر‏.‏ هي ليلةٌ قصيرةٌ على الأحباب لأنهم فيها في مسَامرةٍ وخطاب‏.‏‏.‏ كما قيل‏:‏

يا ليلة من ليالي الدهرِ *** قابلت فيها بَدْرَها بِبَدْرِ

ولم تكن عن شَفَقٍ وفَجْرٍ *** حتى تولّت وهي بَكْرُ الدهرِ

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالرُّوحُ فِيهَا‏}‏‏:‏ قيل جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ مَلَكُ عظيم‏.‏

‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏‏:‏ أي بأمر ربهم‏.‏

‏{‏مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ‏}‏‏:‏ أي مع كل مأمورٍ منهم سلامي عَلَى أوليائي‏.‏

‏{‏هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏‏:‏ أي هي باقية إلى أن يطلع الفجر‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏‏.‏

«منفكين»‏:‏ مُنْتَهين عن كفرهم حتى تأتيهم البيَّنة‏:‏ وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لم يزالوا مجتمعين عَلَى تصديقه؛ لِمَا وَجَدوه في كُتُبهم إلى أنْ بَعَثَه الله تعالى‏.‏ فلمّا بَعَثَه حسدوه وكفروا‏.‏

‏{‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏‏.‏

أي حتى يأتيهم رسول من الله يقرأ كُتُباً مُطَهَّرَةً عن تبديل الكفار‏.‏

‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏‏:‏ مستوية ليس فيها اعوجاج‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِِّنَةُ‏}‏‏.‏

يعني‏:‏ القرآن‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لَيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏.‏

‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ أي موحِّدين لا يُشرِكون بالله شيئاً؛ فالإخلاصُ أَلاَّ يكونَ شيءٌ من حركاتك وسَكَنَاتك إلاَّ لله‏.‏

ويقال‏:‏ الإخلاصُ تصفيةُ العملِ من الخَلَلِ‏.‏

«حنفاء»‏:‏ مائلين إلى الحقِّ، عادلين عن الباطل‏.‏

‏{‏وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ *** وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏:‏ أي دينُ الملَّةِ القيمة، والأمة القيِّمة، والشريعة القيِّمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ‏}‏‏.‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏‏:‏ مقيمين‏:‏ ‏{‏الْبَرِيَّةِ‏}‏‏:‏ الخليقة‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ خير الخَلْق، وهذا يدل عَلَى أنهم أفضلُ من الملائكة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً‏}‏‏.‏

‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏‏:‏ أي ثوابهم في الآخرة عَلَى طاعاتهم‏.‏

‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ من تحت أَشجارها الأنهار‏.‏

‏{‏رَّضىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏‏.‏

فلم تَبْقَ لهم مطالبةٌ إلاَّ حَقَّقَها لهم‏.‏

‏{‏ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ خافَهُ في الدنيا‏.‏

والرضا سرورُ القلب بمرِّ القضَا‏.‏

ويقال‏:‏ هو سكونُ القلبِ تحت جَرَيان الحُكْم‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضِ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ أموتهَا، وما فيها من الكنوز والدفائن‏.‏

‏{‏وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا‏}‏‏.‏

يعني الكافرُ الذي لا يُؤْمِنُ بها أي بالبعث‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏‏.‏

يومئذٍ تُخَبِّر الأرضُ‏:‏

‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏‏.‏

أي‏:‏ إنما تفعَل ذلك بامر الله‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَشْتَاتاً‏}‏‏:‏ متفرِّقين‏.‏ ‏{‏لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ليُحَاسَبوا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏‏.‏

فيُقَاسي عناءَه‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً‏}‏‏.‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ‏}‏‏:‏ الخيلُ التي تعدو‏.‏

‏{‏ضَبْحاً‏}‏ أي إِذا ضَبحن ضبحاً، والضبحُ‏:‏ هو صوتُ أجوافها إِذا عَدَوْنَ‏.‏

ويقال‏:‏ ضبحُها هو شِدةُ نَفسِها عند العَدْوِ‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ‏}‏؛ الإبل‏.‏

وقيل‏:‏ أقسم الله بأفراسِ الغزاة‏.‏

‏{‏فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً‏}‏‏.‏

تورى بحوافرها النار إِذا عَدَتْ وأصابَتْ سنابِكُها الحجارة بالليل‏.‏

ويقال‏:‏ الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب‏.‏

ويقال‏:‏ هي الأسِنَّة‏.‏

‏{‏فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً‏}‏‏.‏

تُغِير على العدوِّ صباحاً‏.‏

‏{‏فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ هَيَّجْنَ به غباراً‏.‏

‏{‏فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تَوَسَّطْنَ المكان، أي‏:‏ تتوسط الخيل بفوارسها جَمْعَ العَدُوِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ‏}‏‏.‏

هذا هو جوابُ القَسَمِ‏.‏

‏{‏لَكَنُودٌ‏}‏‏:‏ أي لكَفُور بالنعمة‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ عَلَى ذَالِكَ لَشَهِيدٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ وإنه على كنوزه لشهيد‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ وإنه لبخيلٌ لأجل حُبِّ المال‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ بُعِثَ الموتى‏.‏

‏{‏وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ‏}‏‏.‏

بُيِّنَ ما في القلوب من الخير والشرِّ‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرُ‏}‏‏.‏

أفلا يعلم أن اللَّهَ يُجازيهم- ذلك اليومَ- على ما أسلفوا، ثم قال عَلَى الاستئناف‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّهُم يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرُ‏}‏‏.‏

ويقال في معنى الكَنُود‏:‏ هو الذي يَرَى ما إليه مِنْ البَلْوَى، ولا يرى ما هو به مِنْ النُّعْمَى‏.‏

ويقال‏:‏ هو الذي رأسُه على وسادة النعمة، وقَلبُه في ميدان الغفلة‏.‏

ويقال‏:‏ الكَنُود‏:‏ الذي ينسى النِّعَم ويَعُدُّ المصائب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ عَلَى ذَالِكَ لَشَهِيدٌ‏}‏، يحتمل‏:‏ وإِنَّ اللَّهَ على حاله لشهيد‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏القَارِعَةُ مَا القَارِعَةُ‏}‏‏.‏

القارعةُ‏:‏ اسمٌ من أسماء القيامة، وهي صيغة «فاعلة» من القَرْع، وهو الضربُ بشدَّة‏.‏ سُمِّيت قارعة لأنها تقرعهم‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏‏.‏

تهويلاً لها‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ المُتَفَرِّق *** وعند إعادتهم يركب بعضهم بعضاً‏.‏

‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمُنفُوشِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ كالصوف المصبوغ‏.‏

والمعنى فيه‏:‏ أن أصحابَ الدعاوى وأرباب القوة في الدنيا يكونون- في القيامة إذا بُعِثُوا- أضعفَ من كلِّ ضعيف؛ لأن القُوى هنالك تسقط، والدعاوى تَبْطُل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏‏.‏

مَنْ ثقلت موازينهُ بالخيرات فهو في عيشة راضية؛ أي مَرْضية‏.‏

ووزنُ الأعمالِ يومئذٍ يكون بوزن الصحف‏.‏ ويقال‏:‏ يخلق بَدَلَ كلَّ جزءٍ من أفعاله جوهراً، وتُوزَنُ الجواهر ويكون ذلك وزن الأعمال‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏‏.‏

مَنْ خَفَّتْ موازينه من الطاعات- وهم الكفارُ- فمأواه هاوية‏.‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَاهِيَةْ نَارٌ حَامِيَةُ‏}‏‏.‏

سؤالٌ على جهة التهويل‏.‏ ولم يَرِدُ الخبرُ بأن الأحوال توزَن، ولكن يُجازَى كلُّ بحالةٍ مما هو كَسْبٌ له، أو وَصَلَ إلى أسبابها بكَسْبٍ منه‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ألَهَاكُمُ التَكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ شَغَلَكم تَفَاخُرُكم فيما بينكم إلى آخر أعماركم إلى أَنْ مِتُّم‏.‏

ويقال‏:‏ كانوا يفتخرون بآبائهم وأسلافهم؛ فكانوا يشيدون بذكر الأحياء، وبمن مضى من أسلافهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ شَغَلكم تفاخركم فيما بينكم حتى عَدَدْتم أمواتكم أحيائِكم‏.‏

وأنساكم تكاثركم بالأموال والأولاد طاعةَ الله‏.‏

‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

على جهة التهويل‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لو علمتم حقَّ اليقين لارتدعتم عمَّا أنتم فيه من التكذيب‏.‏

‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

أراد جميعَ ما أعطاهم اللَّهُ من النعمة، وطالَبهم بالشكر عليها‏.‏

ومن النعيم الذي يُسَألُ عنه العبد تخفيفُ الشرائع؛ والرُّخَصُ في العبادات‏.‏

ويقال‏:‏ الماء الحار في الشتاء، الماء البارد في الصيف‏.‏

ويقال‏:‏ منه الصحَّةُ في الجسد، والفراغ‏.‏

ويقال‏:‏ الرضاءُ بالقضاء‏.‏ ويقال‏:‏ القناعة في المعيشة‏.‏

ويقال‏:‏ هو المصطفى صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ‏}‏‏.‏

‏{‏العصر‏}‏‏:‏ الدهر- أقسم به‏.‏

ويقال‏:‏ أراد به صلاة َ العصر‏.‏ ويقال‏:‏ هو العَشِيّ‏.‏

‏{‏الإنسَانَ‏}‏‏:‏ أراد به جنْسَ الإنسان‏.‏ «والخُسْر»‏:‏ الخسران‏.‏

والمعنى‏:‏ إن الإنسان لفي عقوبةٍ من ذنوبه‏.‏ ثم استثنى المؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ‏}‏‏.‏

الذين أخلصوا في العبادة وتواصوا بما هو حقُّ، وتواصوا بما هو حَسَنٌ وجميلٌ، وتواصوا بالصبر‏.‏

وفي بعض التفاسير‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ يعني أبا بكر، ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏‏:‏ يعني عمر‏.‏

و ‏{‏تواصوا بالحقِّ‏}‏ يعني عثمان، و‏{‏تواصوا الصبر‏}‏ يعني عليًّا- رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

والخسرانُ الذي يلحق الإنسان على قسمين‏:‏ في الأعمال ويتبيَّن ذلك في المآل، وفي الأحوال ويتبيَّن ذلك في الوقت والحال؛ وهو القبضُ بعد البسط، والحجبةُ بعد القربة، والرجوعُ إلى الرُّخَصِ بعد إيثار الأَشَقِّ والأَوْلَى‏.‏

‏{‏وتواصوا بالحقِّ‏}‏‏:‏ وهو الإيثارُ مع الخَلْق، والصدقُ مع الحقِّ‏.‏

‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏‏:‏ على العافية *** فلا صبرَ أَتَمُّ منه‏.‏

ويقال‏:‏ بالصبر مع الله‏.‏‏.‏ وهو أشدُّ أقسام الصبر‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏‏.‏

يقال‏:‏ رجلٌ هُمَزَةٌ لُمَزة‏:‏ أي كثيرُ الهَمْزِ واللَّّمزِ للناس وهو العيب والغيبة‏.‏

ويقال‏:‏ الهُمَزَة الذي يقول في الوجه، واللُّمزة الذي يقول مِنْ خَلْفِه‏.‏

ويقال‏:‏ الهَمْزُ الإشارةُ بالرأس والجَفْنِ وغيره، واللَّمْزُ باللسان‏.‏

ويقال‏:‏ الهُمَزة الذي يقول ما في الإنسان، واللُّمَزَة الذي يقول ما ليس فيه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ‏}‏‏.‏

«جمَّع» بالتشديد على التكثير، وبالتخفيف‏.‏

‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ يُبْقِيه في الدنيا‏.‏ كلاَّ ليس كذلك‏:‏

‏{‏كَلاَّ لَيثنبَذَنَّ فَِى الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفِئْدَةِ‏}‏‏.‏

ليُطْرَحَنَّ في جهنَّم‏.‏ ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ‏}‏‏؟‏ على جهة التهويل لها‏.‏

فهم في نار الله الموقدة التي يبلغ أَلَمُها الفؤاد‏.‏

‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ‏}‏‏.‏

مُطْبَقة‏.‏

‏{‏فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ‏}‏‏.‏

«عَمَد»‏:‏ جمع عماد‏.‏ وقيل‏:‏ إنها عُمُدٌ من نارٍ تُمدَّدُ وتُضْرَبُ عليهم؛ كقوله‏:‏ ‏{‏أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ الغِنَى بغيرِ اللَّهِ فَقْرٌ، والأُنْسُ بغيره وَحْشَة، والعِزُّ بغيره ذُلُّ‏.‏

ويقال‏:‏ الفقيرُ مَنْ استغنى بمالِه، والحقيرُ‏:‏ مَنْ استغنى بجاهِه، والمُفْلِسُ‏:‏ مَنْ استغنى بطاعته، والذليلُ‏:‏ من استغنى بغير الله، والجليلُ‏:‏ من استغنى بالله‏.‏

ويقال‏:‏ بَيَّنَ أن المعرفة إذا اتَّقَدتْ في قلب المؤمن أحرقت كلَّ سْؤْلٍ وأَرَبِ فيه، ولذلك تقول جهنهّمُ- غداً- للمؤمن‏:‏ «جُزْ، يا مؤمن *** فإنّ نورَك قد أَطْفَأَ لَهَبي»‏!‏

سورة الفيل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

أَلَمْ يَنْتِه إليكَ فيما أنزل عليك عِلْمُ ما فَعلَ ربُّكَ بأصحاب الفيل‏؟‏‏.‏

وفي قصة أصحاب الفيل دلالة على تخصيص اللَّهِ البيتَ العتيقَ بالحِفْظِ والكِلاءة‏.‏ وذلك أنَّ أَبرهة- مَلِكَ اليمن- كان نصرانياً، وبنى بيعةً لهم بصنعاء‏.‏ وأراد هَدْمَ الكعبة ليصرفَ الحجَّ إلى بيعتهم‏.‏

وقيل‏:‏ نزل جماعةٌ من العرب ببلاد النجاشي، وأوقدوا ناراً لحاجةٍ لهم، ثم تغافلوا عنها ولم يُطْفِئوها، فهبَّت الريحُ وحَمَلَتْ النارَ إلى الكنيسة وأحرقتها، فَقَصَد أبرهةُ الكعبةَ لِيَهْدِمها بجيشه‏.‏

فلمّا قَرُبَ من مكة أصاب مائتي جَمَلٍ لعبد المطلب، فلمَّا أُخْبِرَ بذلك ركب إليهم، فَعَرفَةُ رجلان، فقالا له‏:‏

ارجعْ‏.‏‏.‏ فإنْ المَلِكَ غضبان‏.‏

فقال‏:‏ واللاتِ والعُزَّى لا أَرْجِعُ إلاَّ بإبلي‏.‏

فقيل‏:‏ لأبرهة‏:‏ هذا سَيِّدُ قريش ببابِك؛ فأَذِنَ له، وسأله عن حاجته؛ فأجاب أبرهة‏:‏ إنها لك غداً، إذا تقدَّمْتُ إلى البيت‏.‏

فعاد عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم بما حدث، ثم قام وأخذ بحلْقِه باب الكعبة، وهو يقول‏:‏

لا هُمَّ إِنَّ العَبْدَ يم *** نعُ رَحْلَه فامنعُ حَلاَلِكَ

لا يَغْلِبَنَّ صليبُهمْ *** ومِحَالُهم عَدْواً مِحالَكْ

إِنْ يدخلوا البلدَ الحرا *** مَ فأمرٌ ما بدالك

فأرسل اللَّهُ عليهم طيراً أخضرَ من جهة البحر طِوالَ الأعناق، في مناقر كل طائرٍ حَجَرٌ وفي مخلبه حجران‏.‏

قيل‏:‏ الحجَرةُ منها فوق العدس دون الحمص‏.‏

وقيل‏:‏ فوق الحمص دون الفستق، مكتوب على كل واحدة اسم صاحبها‏.‏

وقيل‏:‏ مُخَطَّطةٌ بالسَّواد‏.‏ فأُمْطِرَتْ عليهم، وماتوا كُلُّهم‏.‏

وقيل‏:‏ كان الفيلُ ثمانيةً؛ وقيل‏:‏ كان فيلاً واحداً‏.‏

وقيل‏:‏ رواية‏:‏ إنه كان قبل مولده صلى الله عليه وسلم بأَربعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ بثلاثة وعشرين سنة‏.‏ وفي رواية «وُلِدْتُ عامَ الفيل»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ مَكرَهم في إبطال‏.‏

‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَبَابِيلَ‏}‏‏:‏ مجمعةً ومتفرِّقةً‏.‏

‏{‏تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ‏}‏‏.‏

قيل بالفارسية‏:‏ سنكل أو كل- أي طينٌ طُبخَ بالنار كالآجُر‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأكُولِ‏}‏‏.‏

‏{‏كَعَصْفٍ‏}‏‏:‏ كأطرافِ الزرع قبل أن يدرك‏.‏ «مأكول» أي ثَمرَهُ مأكول‏.‏

ويقال‏:‏ إذا كان عبد المطلب- وهو كافرٌ- أخلص في التجائه إلى الله في استدفاع البلاء عن البيت- فاللَّهُ لم يُخَيِّبْ رجاءَهُ- وسَمِعَ دُعاءَهُ *** فالمؤمِنُ المخلصُ إذا دعا ربَّه لا يردُّهُ خائباً‏.‏

ويقال‏:‏ إنما أُجيب لأنَّه لم يسألْ لِنَفْسِه، وإِنما لأجْلِ البيت *** وما كان لله لا يضيع‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ‏}‏‏.‏

«الإيلاف»‏:‏ مصدر آلَفَ، إذا جَعَلْتَهُ يَأْلَف *** وهو أَلِفَ إِلْفاً‏.‏

والمعنى‏:‏ جعلهم كعصفٍ مأكولٍ لإيلافِ قريْشْ، أي لِيَأْلَفوا رحلتهم في الشتاء والصيف‏.‏

وكانت لهم رحلتان للامتيار‏:‏ رحلةٌ إلى الشام في القيظ، ورحلة إلى اليمن في الشتاءِ والمعنى‏:‏ أنعم اللَّهُ عليهم بإهلاكِ عدوِّهم ليؤلَّفَهم رحلتيهم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ‏}‏ ‏{‏لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ‏}‏ كأنه أَعْظَمَ المِنَّةَ عليهم‏.‏ وأَمرَهم بالعبادة‏:‏

‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ‏}‏‏.‏

فليعبدوه لِمَا أنعم به عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ‏}‏ بعد ما أصابهم من القحط حينما دعا عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِ‏}‏‏.‏

حين جعَلَ الحرَمَ آمِناً، وأجارَهم من عدوِّهم‏.‏

ويقال‏:‏ أنعم عليهم بأن كفاهم الرحلتين بجلْبِ الناسِ الميرةَ إليهم من الشام ومن اليمن‏.‏

وَوجْهِ المِنَّةِ في الإطعام والأمان هو أن يتفرَّغوا إلى عبادة الله؛ فإِنَّ مَنْ لم يكن مكْفِي َّ الأمور لا يتفرَّغُ إلى الطاعة، ولا تساعده القوة ولا القلبُ- إلاَّ عند السلامة بكلِّ وجهٍ وقد قال تعالى‏:‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَئ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏ فقدَّم الخوف على جميع أنواع البلاءِ‏.‏

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ‏}‏‏.‏

نزلت الآية على جهة التوبيخ، والتعجُّبِ من شأن تظلُّم اليتيمِ من الكفار‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ‏}‏، وبالحساب والجزاء‏؟‏

‏{‏فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ‏}‏‏.‏

يدفعه بجفوة، ويقال‏:‏ يدفعه عن حقَّه‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يَحُثُّ على إطعام المسكين، وإنما يدعُّ اليتيم؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قد نزع الرحمةَ من قلبه «ولا تنزع الرحمة إلاَّ من قلبِ شقيٍّ»‏.‏

وهو لا يحث على طعام المسكين، لأنه في شُحِّ نَفْسِه وأَمْرِ بُخْلِه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ‏}‏‏.‏

السَّاهي عن الصلاة الذي لا يُصَلِّي‏.‏ ولم يقل‏:‏ الذين هم في صلاتهم ساهون‏.‏‏.‏ ولو قال ذلك لكان الأمرُ عظيماً‏.‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ‏}‏‏:‏ أي يصلون ويفعلون ذلك على رؤية الناس- لا إخلاصَ لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الماعون‏:‏ مثل الماء، والنار، والكلأ، والفأس، والقِدْر وغير ذلك من آلةِ البيت‏.‏

ويدخل في هذا‏:‏ البُخْلُ، والشُّحّث بما ينفع الخَلْقَ مما هو مُمْكِنٌ ومُسْتَطاع‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ‏}‏‏.‏

‏{‏الْكَوْثَرَ‏}‏‏:‏ أي الخبر الكثير‏.‏ ويقال‏:‏ هو نَهْرٌ في الجنة‏.‏

ويقال‏:‏ النبوَّةُ والكتابُ‏.‏ وقيل‏:‏ تخفيف الشريعة‏.‏

ويقال‏:‏ كثرةُ أُمَّتِه‏.‏

ويقال‏:‏ الأصحابُ والأشياع‏.‏ ويقال‏:‏ نورٌ في قلبه‏.‏

ويقال‏:‏ معرفته بربوبيته‏.‏

‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏‏.‏

أي صَلِّ صلاةَ العيد ‏{‏وَانْحَرْ‏}‏ النُّسُك‏.‏

ويقال‏:‏ جمع له في الأمر بين‏:‏ العبادة البدنية، والمالية‏.‏

ويقال «وانحر» أي استقبِلْ القبلة بنحرك‏.‏ أو ارفع يديك في صلاتك إلى نحرك‏.‏

ويقال‏:‏ ضَعْ يمينك على يسارك في الصلاة واجعلها تحت نَحْرِك‏.‏

‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لا يُذْكَرُ بخيرٍ، مُنْقَطِعٌ عنه كل خير‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الكَافِرُونَ لآَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏

من أصنامكم‏.‏

‏{‏وَلآَ أنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ‏}‏‏.‏

«ما» أعبد أي «من» أعبد‏.‏

‏{‏وَلاَ َأنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏‏.‏

في زمانكم‏.‏

‏{‏وَلآَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ‏}‏‏.‏

كَرَّرَ اللفظ على جهة التأكيد‏.‏

‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ لكم جزاؤكم على دينكم، ولي الجزاءُ على ديني‏.‏

والعبودية القيام بأمره على الوجه الذي به أمَرَ، وبالقَدْر الذي به أمَرَ، وفي الوقت الذي فيه أمَر‏.‏

ويقال‏:‏ صِدْقُ العبودية في تَرْكِ الاختيار، ويظهر ذلك في السكون تحت تصاريف الأقدار من غير انكسار‏.‏

ويقال‏:‏ العبودية انتفاء الكراهية بكلِّ وجهٍ من القلب كيفما صَرَّفَك مولاك

سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ‏}‏‏.‏

النصرُ الظَّفَرُ بالعدوِّ، و‏{‏الفتح‏}‏ فتح مكة‏.‏

‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً‏}‏‏.‏

يُسْلِمون جماعاتٍ جماعاتٍ‏.‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏‏.‏

أكْثِرْ حَمْدَ ربِّكَ، وصلِّ له، وَقَدِّسْه‏.‏

ويقال‏:‏ صَلِّ شكراً لهذه النعمة‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ وسَلْ مغفرته‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا‏}‏‏.‏

لِمَنْ تاب؛ فإنه يقبل توبته‏.‏

ويقال‏:‏ نصرة الله- سبحانه- له بأنْ أفناه عن نَفْسِه، وأبعد عنه أحكامَ البشرية، وصفَّاه من الكدورات النفسانية‏.‏ وأمَّا «الفتح»‏:‏ فهو أنْ رقَّاه إلى محلِّ الدنو، واستخلصه بخصائص الزلفة، والبسه لِباسَ الجمع، واصطلمه عنه، كان له عنه، ولنَفْسِه- سبحانه- منه، وأظهر عليه ما كان مستوراً من قَبْلُ من أسرارِ الحقِّ، وعَرَّفَه- من كمال معرفته به- ما كان جميعُ الخَلْقِ متعطشاً إليه‏.‏

سورة المسد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ خَسِرَت يداه‏.‏

‏{‏مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏‏.‏

ما أغنى عنه مالُه ولا كَسْبُه الخبيثُ- شيئاً‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏ما كسب‏}‏‏:‏ وَلَدُه‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏‏.‏

يلزمها إذا دَخَلَها؛ فلا براحَ له منها‏.‏ وامرأتُه أيضاً سَتَصْلَى النارَ معه‏.‏

‏{‏فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد‏}‏‏.‏

«مَسَدٌ» شيءٌ مفتول، وكانت تحمل الشوك وتنقله وتبثه في طريقِ رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏

ويقال‏:‏ سُحْقاً لِمَنْ لا يعرف قَدْرَكَ- يا محمد‏.‏ وبُعْدَاً لِمَنْ لم يشهد ما خصصناكَ به مِنْ رَفْع محلِّك، وإكبار شأنِك *** ومَنْ ناصبَكَ كيف ينفعه مالُه‏؟‏ والذي أقميناه لأجلِكَ وقد ‏(‏أساء‏)‏ أعماله‏.‏‏.‏ فإنَّ إلى الهوانِ والخِزْي مآله، وإنَّ على أقبحِ حالٍ حالَ امرأتِه وحالَه‏.‏

سورة الإخلاص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

لمَّا قال المشر كون‏:‏ أُنسُبْ لنا ربَّكَ‏:‏ أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

فمعنى «هو» أي‏:‏ الذي سألتُم عنه «هو» الله‏.‏ ومعنى «أحد» أي‏:‏ هو أحدٌ‏.‏

ويقال‏:‏ «هو» مبتدأ، «والله» خبره و«أحد» خبرٌ ثانٍ كقولهم‏:‏ هذا حلوٌ حامض‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏‏.‏

‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ السيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه الحوائج، ويُقْصَدَ إليه في المطالب‏.‏

ويقال‏:‏ الكاملُ في استحقاق صفات المدح‏.‏

ويرجِّج تحقيقُ قولِ مَنْ قال‏:‏ إنه الذي لا جوفَ له إلى أنه واحدٌ لا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في ذاته‏.‏

‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ‏}‏‏.‏

ليس بوالدٍ ولا مولود‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدُ‏}‏‏.‏

تقديره لم يكن أحدٌ كفواً له‏.‏

و «أحد» أصله وَحْدٌ، ووِحَدٌ وواحد بمعنًى، وكونه واحداً‏:‏ أنه لا قسيمَ له ولا شبيهَ له ولا شريكَ له‏.‏

ويقال‏:‏ السورة بعضها تفسيرٌ لبعض؛ مَنْ هو الله‏؟‏ هو الله‏.‏ مَنْ الله‏؟‏ الأحد، مَنْ الأحد‏؟‏ الصمد، مَنْ الصمد‏؟‏ الذي لم يلد ولم يولد، مَنْ الذي لم يلد ولم يولَد‏؟‏ الذي لم يكن له كفواً أحد‏.‏

ويقال‏:‏ كاشَفَ الأسرارَ بقوله‏:‏ «هو»‏.‏ وكاشَفَ الأرواحَ بقوله‏:‏ «الله» وكاشَفَ القلوبَ بقوله‏:‏ «أحد»‏.‏ وكاشَفَ نفوسَ المؤمنين بباقي السورة‏.‏

ويقال‏:‏ كاشَفَ الوالهين بقوله‏:‏ «هو»، والموحَّدين بقوله‏:‏ «الله» والعارفين بقوله‏:‏ «أحد» والعلماء بقوله‏:‏ «الصمد»، والعقلاء بقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏‏.‏ إلى آخره‏.‏

ويقال‏:‏ لمَّا بسطوا لسانَ الذمِّ في الله أمَرَ نبيَّنا بأنْ يَرُدَّ عليهم فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏ أي ذُبَّ عني ما قالوا، فأنت أولى بذلك‏.‏ وحينما بسطوا لسان الذمِّ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم تولَّى الحقُّ الردَّ عليهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1، 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1 2‏]‏ أي أنا أذبُّ عنك؛ فأنا أولى بذلك منك‏.‏

ويقال‏:‏ خاطَبَ الذين هم خاص الخواص بقوله‏:‏ «هو» فاستقلوا، ثم زاد لمن نزل عنهم فقال‏:‏ «الله»، ثم زاد في البيان لمن نزل عنهم‏.‏

فقال‏:‏ «أحدٌ» ثم لمن نزل عنهم فقال‏:‏ «الصمد»‏.‏

ويقال‏:‏ الصمدُ الذي ليس عند الخَلْقُ منه إلا الاسم والصفة‏.‏

ويقال‏:‏ الصمدُ الذي تقدَّس عن إحاطةِ عِلْمِ المخلوقِ به وعن إدراك بَصَرهم له، وعن إشرافِ معارفهم عليه‏.‏

ويقال‏:‏ تقدَّسَ بصمديته عن وقوف المعارف عليه‏.‏

ويقال‏:‏ تنَزَّه عن وقوف العقول عليه‏.‏

سورة الفلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ‏}‏‏.‏

أي امتنع واعتصم بربِّ الفَلَقَ‏.‏ والفلقُ الصُّبْحُ‏.‏

ويقال‏:‏ هو الخَلْقُ كلُّهم وقيل الفَلَقُ وادٍ في جهنم‏.‏

‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏‏.‏

أي من الشرور كلِّها‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ الليلُ إذا دخَلَ‏.‏ وفي خبرٍ، أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عائشة ونَظَرَ إلى القمر فقال‏:‏ «يا عائشة، تَعَوَّذِي بالله من شرِّ هذا فإنه الغاسقُ إذا وقب»‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ‏}‏‏.‏

وهن السواحر اللواتي ينفخن في عُقَد الخيط ‏(‏عند الرُّقية‏)‏ ويوهمنَّ إدخال الضرْرِ بذلك‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏‏.‏

والحَسَدُ شرُّ الأخلاق‏.‏

وفي السورة تعليمُ استدفاع الشرور من الله‏.‏ ومَنْ صَحَّ توكُّلُه على الله فهو الذي صحَّ تحقُّقُه بالله، فإذا توكَّلَ لم يُوَفِّقْه اللَّهُ للتوكُّلِ إلاَّ والمعلومُ من حاله أنه يكفيه ما توكَّلَ به عليه؛ وإنَّ العبدَ به حاجةٌ إلى دَفْعِ البلاء عنه- فإن أخَذَ في التحرُّز من تدبيره وحَوْله وقُوَّته، وفَهْمِه وبصيرته في كلِّ وقتٍ استراح من تعب تردُّدِ القلبِ في التدبير، وعن قريبٍ يُرَقَّى إلى حالة الرضا‏.‏‏.‏ كُفِيَ مُرَادَه أم لا‏.‏ وعند ذلك الملك الأعظم، فهو بظاهره لا يفتر عن الاستعاذه، وبقلبه لا يخلو من التسليم والرضا‏.‏

سورة الناس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ‏}‏‏.‏

أعتصِمْ بربِّ الناسِ خالقِهِم وسيَّدِهم‏.‏

‏{‏مَلِكَ النَّاسِ‏}‏‏.‏

أي مالكهم جميعهم‏.‏

‏{‏إِلَهِ النَّاسِ‏}‏‏.‏

القادِر على إيجادهم‏.‏

‏{‏مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ‏}‏‏.‏

من حديثِ النَّفْسِ بما هو كالصوتِ الخفيِّ‏.‏

ويقال‏:‏ مِنْ شرِّ الوسواس‏.‏

ويقال‏:‏ من شرِّ الوسوسة التي تكون بين الجِنَّةِ والناس‏.‏

«والخنَّاس» الذي يغيب ويخنس عن ذِكْرِ الله‏.‏ وهو من أوصاف الشيطان‏.‏ ‏{‏الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صَدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ «الناس» يقع لفظها على الجنِّ والإنْسِ جميعاً- كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏ فسمَّاهم نفراً، وكما قال‏:‏

‏{‏يعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏ فسمَّاهم رجالاً‏.‏‏.‏ فعلى هذا استعاذ من الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، والشيطانُ الذي له تسلُّطٌ على الناسِ كالوسواس؛ فللنَّفْس من قِبَلِ العبد هواجسُ، وهواجِسُ، وهواجِسُ النَّفْسِ ووساوسُ الشيطانِ يتقاربان؛ إذ إن يدعو إلى متابعة الشهوة أو الضلالة في الدين أو إلى ارتكاب المعصية، أو إلى الخصال الذميمة- فهو نتيجة الوساوس والهواجس‏.‏

وبالعلم يُمَيَّزُ الإلهام وبين الخواطِر الصحيحة وبين الوساوس‏.‏

‏(‏ومما تجب معرفته‏)‏ أن الشيطان إذا دعا إلى محظورٍ فإن خالَفْتَه يَدَعْ ذلك ‏(‏ثم‏)‏ يدعوك إلى مععصيةٍ أخرى؛ إذ لا غََرَضَ له إلا الإقامة على دعائك ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ غير مختلفة‏.‏